================================من صاحب الانذال حُقّر، ومن صاحب العلماء وُقّر
(الامام علي)
النذالة رذيلة، بل “ام الرذائل”، وابشع انواع السقوط النفسي والاخلاقي·· ربما لانها خصيصة عابرة لاحط الطباع والمواصفات، وجامعة لاردأ المثالب والقبائح والفضائح، وعائدة على اصحابها الانذال بوافر العار والشنار والاحتقار، وعلى ضحاياها المخذولين والمنذولين بعظيم الوجع والفزع والفجيعة·
النذالة سباحة في مستنقع الخسة، وقراءة في قاموس الغدر، وسياحة في خارطة الدجل، وهبوط في مدرج الجبن، وسقوط في احضان الخداع والتدليس، ودوام يومي في مدرسة الجحود ونكران الجميل ونسيان المعروف·
معجمياً·· النذل او النذيل، هو الخسيس من الناس، والمحتقر في كل احواله، والساقط في حسبه او نسبه او دينه او فعله·· اما النذل، في ميزان الامر الواقع ومكيال الفعل المضارع، فهو الاناني حد التخمة، والمتذبذب وفق الظروف، والمتقلب ابتغاء المكسب والمنصب، والمتذلل للقوي والمتجبر في الضعيف، والمتنكر للشقيق والصديق عند الامتحان ووقت الشدة، والمترخص الساعي بين الناس بالدس والوقيعة والنميمة والتأليب وايغار الصدور·
للنذل اكثر من صفة حيوانية وسلوك وحشي، فهو الحرباء التي تغير لونها كل ساعة، وهو العقرب التي تلسع على حين غرة، وهو الكلب الذي يستقوي على الصغار ويستخذي امام الكبار، وهو الذئب الذي يأكل لحم اخيه الجريح حتى قبل موته، وهو الخنزير الذي يفتقد الغيرة والحمية حتى على انثاه، وهو الثعلب الذي يجيد فنون المكر والاحتيال والمراوغة·· مصداقاً لقول الشاعر العربي القديم، صالح بن عبد القدوس··
ولا خيرَ في ودِ إمرئٍ متملقٍ
حلوُ اللسانِ وقلبهُ يتلهّبُ
يلقاكَ يحلفُ انه بكَ واثقٌ
واذا توارى عنكَ فهو العقربُ
يعطيكَ من طرفِ اللسانِ حلاوةً
ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ
منذ قديم الزمان، احتقر العرب فعل النذالة والانذال، وعبروا عن ذلك شعراً ونثراً، واعتبروا النذالة نقيضاً للفضيلة بمختلف اطيافها، ومستودعاً للمثالب والمعايب والنقائص بكل تنويعاتها واصنافها، فلا رابط او جامع او همزة وصل بين النذالة – مثلاً – وبين الشهامة او المروءة او الكرامة او الرجولة او البطولة، او كل ما يتصل بالقيم السامية والاخلاق الحميدة والسجايا النبيلة المعطرة بالاباء والعطاء والنخوة والكبرياء·
ولعل اجمل ما قرأت شخصياً من تراتيل وتسابيح الشعر العربي المعتق، بيتين من شعر ابي الفتح البستي حول النذالة والانذال، قال فيهما··
اذا ما اصطحبتَ امرأً فليكنْ
شريفَ النجادِ ذكيَ النسبْ
فنذلُ الرجالِ كنذلِ النبات
فلا للثمارِ ولا للحطبْ
في حين يقول شاعر قديم آخر غاب عني اسمه··
الحرُ حرٌ وإن تَعدتْ
عليهِ يوماً يدُ الزمانِ
والنذلُ نذلٌ وإن تكنىْ
وصارَ ذا ثروةٍ وشانِ
شاعر آخر قال في شكوى الزمان، وهجاء الدنيا التي يبدو انها قد ظلمته وجارت عليه··
دوائرها تُرّفعُ كل نذلٍ
وتخفضُ من له مجدٌ اثيلُ
اما شاعر الربابة عبده موسى الذي كان يستقي انغامه من صفاء البادية واطياف قوس قزح، فقد اطربني واعجبني حد الشجن والوله حين استمعت، قبل نيف وثلث قرن، الى قصيدته الفطرية والعذرية التي يمتدح فيها رجلاً – غالباً ما يكون رمزاً – اسمه “سلامة”، ويدعو له بطول العمر، فيما يذم الانذال الاوغاد، ويهيب بالمنايا ان تحيق بهم في كل دار، حيث يقول··
ريت المنايا اللي تجي يا “سلامة”
تحوم ع الانذال دار بدار
ويطول عمرك يا حفيظ السلامة
وتدوم يا عز الاهل والجار
وعليه·· وسواء كانت النذالة صفة موروثة تحدرت من السلف الى الخلف، او خصلة مكتسبة تشكلت بفعل البيئة الاجتماعية وظروف الزمان والمكان، فهي في كل الاحوال صفة سلبية ودونية، بل لعلها مرض نفسي وروحي واجتماعي يؤذي اصحابه من الانذال، حتى لو توهموا انه ينفعهم، ويمنحهم القدرة على الفهلوة والنطنطة والشطارة، والاكل على كل الموائد، والصيد في اعالي البحار، والضحك على ذقون الناس، والتكيف الانتهازي وفق المصالح والمتطلبات الانانية والشخصية·
كان كارل ماركس يقول : “ليست غاية حسنة، تلك التي تتطلب وسيلة سيئة”، وليس من شك ان النذالة من اسوأ الوسائل اللازمة لتحقيق الغايات والاهداف، مهما تبدى انها نافعة ومشروعة، ومهما قدم اصحابها من معاذير وتبريرات وتفسيرات، خصوصاً في مجال النذالة السياسية التي تعتبر افحش انواع النذالة، واقرب ما تكون الى التهافت والتفريط والخيانة·
في السياسة لا فرق كبيراً بين النذالة والخيانة، نظراً لان كليهما من افعال المكر والغدر والتآمر وبيع الشرف ووأد الضمير، وقد رأينا في العنوان السوري الراهن كيف تماهت العمالة والنذالة لدى بعض الاسماء اللامعة، من امثال رياض حجاب، ومناف طلاس، ووليد جنبلاط، وشيخ قطر وغيرهم ممن لم يعثروا على شجاعتهم المفقودة، واعمالهم الانقلابية والتمردية، الا بعدما توهموا ان النظام السوري بات قاب قوسين او ادنى من التهالك والسقوط·
غير ان سؤالاً لا بد ان يجول في الذهن والخاطر هو: هل النذالة سمة او صفة ذكورية خاصة بالرجال فقط دون النساء، ام تشمل الطرفين معاً ؟؟
ليس من السهل التفريق بدقة بين الجنسين في هذا المضمار، فهناك الكثير من بنات حواء اللواتي يضاهين الرجال – بل ينافسنهم – في بعض العادات والطباع والسمات القبيحة والمرذولة، كتعاطي التدخين والخمر والقمار والنفاق والانتهاز والزنا·· الخ، غير ان نقيصة النذالة غير متداولة كثيراً في قاموس المعاملات الانثوية، وليست لعبة بارزة من الاعيب النساء الطبيعية والاجتماعية المألوفة·· ربما لان النذالة حكر على الرجال بوصفها الوجه السلبي للرجولة، والجانب المعتم والقاتم في حياة جمع المذكر السالم·
عموماً·· لدى المرأة مواهب ومثالب ومقالب وممارسات وامكانات غير متوفرة بالمجمل لدى الرجل، كالاغراء والتمنع والتباكي والكيد والغيرة والدعارة التي يمكن ان تشكل معادلاً موضوعياً للنذالة الرجالية، ويمكن اعتبارها “نذالة نسائية”، مقابل اعتبار النذالة “دعارة رجالية”·
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق